د.رضا عبد السلام
صحيح أن البنوك ليست مؤسسات خيرية، ولا يمكن أن نطالبها بأن تكون كذلك، وخاصة أنها بمثابة وسيط خير بين المودع والمقترض، تتلقى أموال المودعين (مقابل عائد مجز للمودع) ثم تقوم بإقراض تلك الأموال للمقترضين (مقابل فائدة تفوق ما تدفعه للمودع)، والفارق بين ما تعطيه للمودع وما تحصل عليه من المقترضين هو ربح البنك، الذي يتمكن من خلاله من تطوير خدماته وزيادة موظفيه... إلخ. فبهذا المنطق الاقتصادي والمالي البحت، فإن البنوك أمينة على أموال المودعين ومسؤولة عن توجيهها نحو الاستثمار الأمثل الذي يحفظ حقوقهم وفي الوقت نفسه يضمن للبنك مواصلة لعب دوره الذي يشبه دور القلب (في ضخ الدماء) بضخ التمويل في جسم الاقتصاد، هكذا تعلمنا بشأن دور البنوك في الاقتصاد.
ولكن.. وأكرر ولكن.. عن أي بنوك نتحدث؟ وفي أي سوقٍ تعمل تلك البنوك؟ سؤال مهم.. فهل تنطبق الثوابت التي أشرنا إليها أعلاه بشكل كامل على البنوك العاملة في السوق السعودية؟ هل البنوك التجارية في المملكة تلعب دور الوسيط بين مودع يبحث عن عائد، ومقترض يدفع لها عائدا يفوق ما تدفعه للمودع؟ ثم، لماذا حلت البنوك السعودية في المرتبة الأولى عالمياً - ولا أقول المرتبة الثانية أو الثالثة - في مجال الربحية مقارنة بالبنوك العاملة في دول العالم كافة؟ وذلك بحسب بيانات تقرير التطور المالي لعام 2009م Financial Development Report 2009 (الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي)؟
لماذا حلت البنوك العاملة في المملكة على قمة البنوك الأعلى ربحية عالمياً؟ هل يعزى هذا الوضع المتميز إلى الكفاءة غير العادية أو الاستثنائية في إدارتها؟ أم أن هناك أسباب أخرى مهمة وفرت لها الفرصة لتحقيق أقصى مستويات الربحية، ومن ثم تستحق أن نتوقف عندها ونسأل ..''ألا ينبغي على تلك البنوك - التي تتمتع بميزات خاصة في السوق السعودية - بأن يكون لها دور اجتماعي وتنموي أكبر؟''
الحقيقة هي أن البنوك في المملكة تنعم بوضع خاص للغاية، وهنا تسعفني أرقام مؤسسة النقد؛ ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2009م ارتفعت الودائع لدى تلك البنوك إلى 750 مليار ريال، وتوزعت بين ودائع تحت الطلب (تصل إلى نحو 413 مليار ريال)، وودائع زمنية وادخارية (تصل إلى نحو 342 مليار ريال)، وبالتالي فإن نحو 55 في المائة من الإيداع لدى البنوك التجارية في المملكة هو إيداع دون أي عائد على المودع! ألا تعد البنوك السعودية بهذه الحالة في وضع استثنائي مقارنة بباقي بنوك العالم؟!
ببساطة شديدة يمكن تفسير هذا الوضع الاستثنائي للبنوك السعودية بتشتت الفتوى بشأن ما يعد ربا ومالا يعد ربا، من ثم تخوف الملايين من الأفراد من الوقوع في حرمة الربا، ولهذا لم يكن أمامهم من خيار سوى الإيداع الجاري، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. ولكن من المستفيد من هذا الوضع الغريب؟ إنها البنوك ولا أحد غير البنوك، فتكلفة الإقراض بالنسبة لها شبه معدومة. ولهذا هل نأتي بعد ذلك ونعجب من أرقام الأرباح التي تعلن عنها تلك البنوك في نهاية كل عام أو كل ربع سنة؟!
الأكثر من هذا، أن البنوك العاملة في السوق، ورغم حِزَم التحفيز الكبيرة التي قدمتها مؤسسة النقد، وتقدمها الدولة عبر مختلف القنوات، اتخذت من الأزمة العالمية مطية للحد من الائتمان وهو ما أعاق فرص إنجاز كثير من الأهداف. ليس هذا فقط، بل إننا بمراجعة توزيعات الائتمان المصرفي أو المقدم من تلك البنوك بحسب الآجال، نجد أن أغلبها يتركز على القروض الشخصية والإقراض قصير الأجل (461 مليار ريال)، والمتوسط نحو (115 مليار ريال)، في حين أن حصة الإقراض طويل الأجل (وهو الأهم من المنظور التنموي) محدودة للغاية (172 مليار ريال)، وذلك بنهاية الربع الثالث من 2009م! أيهما أكثر نفعاً للاقتصاد الوطني، القروض قصيرة الأجل أم الائتمان طويل الأجل؟!
ليس هذا فقط، بل إنه وبحسب بيانات مؤسسة النقد بنهاية الربع الثالث من 2009م، فإن توزيع الائتمان بحسب القطاعات يوضح – مثلاً – أن حصة قطاع الصناعة من إجمالي الائتمان المصرفي بلغت فقط 76.3 مليار ريال (10 في المائة تقريباً) من إجمالي الائتمان (750 مليار ريال)، في مقابل نحو 176 للتجارة ونحو 285 مليار لعمليات أخرى. وإذا قارنا وضع البنوك هنا بالوضع في بلد كمصر نجد أنه بحسب أحدث بيانات البنك المركزي المصري، فإن قطاع الصناعة استحوذ على نحو 37 في المائة من إجمالي الائتمان المصرفي، وقطاع التجارة 13 في المائة! مقابل نحو 10 في المائة فقط لقطاع الصناعة، ونحو 23.5 في المائة لقطاع التجارة في المملكة!
قطاع الصناعة السعودي أولى بأن يحظى باهتمام جميع المؤسسات الفاعلة في المملكة، وفي مقدمتها قطاع البنوك والمؤسسات المالية، باعتباره القطاع الذي يجسد الميزات النسبية للمملكة، كما أنه القطاع الذي تُبنى عليه طموحات وآمال كبيرة، والاستراتيجية الوطنية للصناعة المعتمدة حديثاً شباط (فبراير 2009م) ليست عنا ببعيد، فأين قطاع الصناعة إذاً من اهتمام القطاع المصرفي في المملكة؟!
وإذا انتقلنا إلى قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة فحدث ولا حرج، فإذا كانت الشركات الكبرى عاجزة عن الحصول على الائتمان طويل الأجل بسبب الأزمة العالمية وتخوف البنوك، فكيف يستطيع المستثمر الصغير والمتوسط الحصول عليه؟! نتمنى أن تتفضل البنوك بنشر بيانات تفصيلية عن حصة المنشآت الصغيرة والمتوسطة من إجمالي الائتمان المصرفي. ففي بلد كاليابان - وما أدراك ما اليابان - تتوجه الحصة الأكبر من إجمالي الائتمان المصرفي نحو المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وهذا منطقي على اعتبار أن تلك المنشآت تشكل نحو 90 في المائة من إجمالي المنشآت العاملة في الاقتصاد. ألا تشكل المنشآت الصغيرة والمتوسطة نحو 90 في المائة من إجمالي المنشآت العاملة في المملكة؟ فأين حصتها إذاً من الائتمان المصرفي؟ وإذا لم يتوجه جل الائتمان المصرفي إلى تلك النوعية من المشاريع، فما جدوى وجود البنوك؟
نعم البنوك ليست مؤسسات خيرية، ولكن هذا القول لا ينطبق على إطلاقه على البنوك العاملة في المملكة. صحيح أن من واجبها تحقيق ربح مجز، ولكن عليها أن تتذكر أنها تنعم بمزايا غير عادية لا يوفرها سوق آخر، ناهيك عن أن أغلب الودائع المودعة لديها هي ودائع جارية، وأغلبها وُضِع تحت هذا البند ليس من أجل السحب السريع، ولكن في الأساس بسبب التخوف من الوقوع في حرمة الربا. ولهذا هي الأعلى ربحية عالمياً. أبعد كل هذه النعم، يمكن أن نعفي البنوك من دورها الاجتماعي التنموي؟
من منطلق العرض أعلاه، أعتقد أن البنوك في المملكة في حاجة إلى أن تراجع سياساتها وخططها وبرامجها بما يعكس دورها المنشود والمأمول في اقتصاد المملكة. كان من المتوقع أن تساير البنوك وتستجيب لما قدمته مؤسسة النقد من تيسيرات وإشارات في غاية الإيجابية لدفع عجلة الائتمان، وخاصة الائتمان طويل الأجل، ولكنها وكما تفصح البيانات خلال فترة ما بعد الأزمة، وجدناها في شدة التحفظ، بل ضاعفت من شروط الإقراض حتى جعلته مستحيلاً على الكثيرين، ولهذا لم يكن من قبيل المفاجأة أن يعلن مدير عام صندوق التنمية الصناعية السعودي أخيرا عن أن الصندوق استنفد كامل رأسماله، بسبب تصاعد طلبات القروض الصناعية، واستجابة الصندوق في هذا الخصوص.
على البنوك أن تقابل المزايا والوضع الاستثنائي في المملكة ببرامج مخصصة (كما تفعل البنوك في دول أخرى) لمنح الائتمان الميسر للمستثمر الصغير والمتوسط لا أن تضع أمامه العراقيل، وتجبره على إلغاء الفكرة والانضمام إلى طابور العاطلين. نحن لا نطالب البنوك بأن تتحول إلى جمعية خيرية، لأننا نعلم بأنها أمينة على أموال المودعين، ولكن فقط نطالبهم بأن يعكسوا وضعهم الاستثنائي في المملكة في شكل برامج وتوجهات تدعم خطط وأهداف التنمية، وذلك بالتركيز على منح الائتمان طويل الأجل، وبخاصة للصناعة، والأهم من ذلك إعطاء أولوية للمشاريع الصغيرة، على أن توضع السياسات العامة التي يتم من خلالها تقييم تفاعل البنوك مع هذه التوجهات، والتي تنطوي على إضافة أكبر إلى الاقتصاد الوطني وإلى المواطن.
وفي الاتجاه نفسه أدعو أصحاب الفضيلة العلماء، إلى التوصل إلى رأي يحفظ حقوق المودعين، ويضمن لهم عائداً مجزياً على إيداعاتهم، دون الوقوع في شبهة الربا (فهناك أكثر من رأي بشأن ما يعد ربا وما لا يعد كذلك). كما أن هناك مئات الآلاف ممن يعزفون كلية عن التوجه نحو البنوك بسبب هذا التشتت. إن الخاسر الأكبر من هذا الوضع هو المواطن المودع والاقتصاد ككل، والرابح الأكبر هو البنك، لهذا، لا بد من موقف حاسم في هذا الأمر، لتصحيح الوضع ولتستقيم الأمور. والله الموفق.
*نقلا عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية.